دخل عليه..
كان شيخا...كبر سنه...رق عظمه..انحني ظهره لعله من طول القيام...خمص بطنه لعله من كثرة الصيام...
سقط حاجباه علي عينيه اللامعتين..
جالسا في ركن المسجد...لا يوجد معه أحد...
اقترب منه..تباطأ في خطواته...
ثم جثا علي ركبتيه أمامه...
لم يحرك الشيخ ساكنا..
- يا شيخ ....
نظر الشيخ إليه منتظرا كلامه..
أطرق الفتى وتحدث وعينيه علي الأرض لا يجرؤ علي رفعها..
- يا شيخ..إني أراني وقد قسا قلبي..وغفل عقلي...طال أملي وكثر الران علي قلبي....وبت وقد ألهتني دنياي عن ذكر ربي...
لم ينطق الشيخ..
فنظر إليه الفتى فوجده وقد طأطأ رأسه.....
وانحدرت دمعة علي خد الشيخ...
ثم صمت..
- يا شيخ أوصني !!!
نظر له الشيخ نظرة لها ألف معنى..
ثم تكلم....
فقال..
- أرأيتك إن ألهتك الدنيا عن الآخرة...وشغلك الباطل عن الحق...وأبعدك الزائل عن الباقي ...!
ثم سكت..
نظر إليه الفتى..
فأكمل الشيخ..
- أرأيتك إن شغلك طعام عن صيام...ونوم عن قيام....ومعاصٍ عن ذكر وقرآن ....!
تألم الفتى في نفسه,,,وأحني رأسه..
- أرأيتك وقد فتنتك نظرة محرمة...وأسكرتك شهوة عابرة....وغرتك لذة فانية....!
ظل الفتى ناظرا إلي الأرض...
- يا شيخ ...زدني !
- أرأيتك وأنت جالس قد غفلت عن ربك فنسيته !!
فشهقت شهقة فعلمت أنها السكرات..
وشهقت فعلمت أنها قد بلغت التراقي..
وشهقت فظننت أنه الفراق..
وشهقت فالتفت الساق بالساق..
وشهقت فأيقنت أن إلي ربك المساق !!!
انتحب الفتى وأخذ صدره يعلو ويهبط..
- أرأيتك وقد فاضت من عينيك العبرات..
آلآن فاضت وكنت من قبل الضحوك ؟؟
آلآن وجدت مقلتيك وكانتا ضائعتين ؟؟!
شهق الفتى وانحدرت عبراته من عينيه
- أرأيتك وقد جاءك ملك الموت لم يأتِ إلا من أجلك..
أرأيتك وقد قبض روحك وقضي الأمر !
أرأيتك وقد انتهت حياتك وقضي الأمر !
أرأيتك وقد قطعت أنفاسك..وتوقفت نبضاتك...شخص بصرك...وانتهي عمرك........
الأن جاء أجلك....وقضي الأمر !!!
بكى الفتى بكاء شديدا...وعلا صوته بالنحيب.
- أرأيتك وقد حملت فوق الأعناق..وقد جردوك من نعيم دنياك...وما تركوا لك إلا كفنك...
أرأيتك وقد وضعوك تحت الأرض وأهالوا عليك التراب..
أرأيتك وما بقي معك إلا عملك ؟؟!!!
أرأيتك وأنت تُسأل عن ربك ..ودينك....ونبيك ..!!!
نسيك الأهلون..
وتركك الأصحاب..
وفارقك الأحباب...
الميت هذه المرة..أنت !!
ظل الفتى يبكي وهو يشهق...ويعلو صدره ويهبط بشدة...
- أرأيتك وقد جاءك موعد لقاء ربك الجبار..
فنادى المنادي باسمك...لا يقصد أحدا سواك...
وقد وقفت بين يدي الحق جل وعلا...ليس بينك وبينه ترجمان....
أرأيتك وقد عرضت علي ربك..
أليس هذا ما كنت تنساه في دنياك ؟؟؟؟؟
أليس هذا ما غفلت عنه من قبل ؟؟؟؟؟
أليس هذا بالحق الذي تناسيته فأعرضت عنه ؟؟؟؟
استمر الفتى في البكاء وهو لا يدري ما يقول..
أرأيتك وقد وضعت أعمالك في الميزان..
هذا كل ما عملت من عمل...
أرأيتك وقد رجحت كفة من كفتين.......قل لي بربك أيهما سترجح ؟؟؟؟
أرأيتك وقد أوتيت كتابك بإحدي يديك.....قل لي بربك بأي اليدين ستأخذه ؟؟؟؟
أرأيتك وقد دخل أهل الجنة الجنة...ودخل أهل النار النار.....قل لي بربك......من أي الفريقين أنت ؟؟؟؟؟!!!
شهق الفتى كثيرا وزاد بكاؤه فارتفع نحيبه...ووضع يديه علي رأسه..
قل لي أما تخشي من النار ؟؟؟؟
أما تخشي جهنم ؟؟
أما تخشي السعير ؟؟
أما تخشي النار..اللظي......
أما تخشي الغسلين ؟ والزقوم ؟ والحميم ؟
أما تخشي يوم تقول
"رب ارجعــــــــــــــــــــون""رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت"..
فيقال لك "كلا"
ظل الفتى يبكي حتي قال فجأة
"لا إله إلا اللـــــه"ثم شهق وانقطع صوته.....
وسكنت جوارحه...
ساد صمت بعد صوت النحيب..
فنظر إليه الشيخ فإذا رأسه قد انحنى...وبصره قد شخص......وأنفاسه قد توقفت...
انحدرت دمعتان من عيني الشيخ علي يد الفتى الجاثي أمامه..فاختلطت دمعتا الشيخ بدموع الفتى التي سالت قبل رحيله....
ثم أغمض الشيخ عينيه...
وقال..
إنما كان نقش خاتم عمر رضي الله عنه أن "كفي بالموت واعظا يا عمر"
أبشر يا فتى....فوالله لقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)....